فصل: تفسير الآيات رقم (16 - 18)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير البغوي المسمى بـ «معالم التنزيل» ***


سورة التغابن

مدنية

تفسير الآيات رقم ‏[‏1 - 2‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏1‏)‏ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏2‏)‏‏}‏

قال عطاء هي مكية إلا ثلاث آيات من قوله‏:‏ ‏"‏يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم‏"‏ إلى آخرهن‏.‏ ‏{‏يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}‏، قال ابن عباس‏:‏ ‏[‏إن‏]‏ الله خلق بني آدم مؤمنًا وكافرًا، ثم يعيدهم يوم القيامة كما خلقهم مؤمنًا وكافرًا‏.‏

وروينا عن ابن عباس عن أبي بن كعب قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن الغلام الذي قتله الخضر عليه السلام طبع كافرًا‏"‏ وقال جل ذكره ‏"‏ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا‏"‏ ‏[‏نوح - 27‏]‏‏.‏

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد، عن عبيد الله بن أبي بكر بن أنس ‏[‏عن أنس‏]‏ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏وكل الله بالرحم مَلَكًا فيقول‏:‏ أَيْ ربِّ نطفة أيْ ربِّ علقة، أيْ ربِّ مضغة، فإذا أراد الله أن يقضي خلقها قال‏:‏ يا رب أذكَر أم أنثى أشقي أم سعيد‏؟‏ فما الرزق فما الأجل‏؟‏ فيكتب كذلك في بطن أمه‏"‏

وقال جماعة‏:‏ معنى الآية‏:‏ إن الله خلق الخلق ثم كفروا وآمنوا لأن الله تعالى ذكر الخلق ثم وصفهم بفعلهم، فقال‏:‏ ‏"‏فمنكم كافر ومنكم مؤمن‏"‏ كما قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي‏"‏ ‏[‏النور - 45‏]‏ والله خلقهم والمشُي فِعْلُهم‏.‏ ثم اختلفوا في تأويلها‏:‏ روي عن أبي سعيد الخدري أنه قال‏:‏ ‏"‏فمنكم كافر‏"‏ في حياته ‏"‏مؤمن‏"‏ في العاقبة ‏"‏ومنكم مؤمن‏"‏ في حياته كافر في العاقبة‏.‏

وقال عطاء بن أبي رباح‏:‏ فمنكم كافر بالله مؤمن بالكواكب، ومنكم مؤمن بالله كافر بالكواكب‏.‏

وقيل فمنكم كافر بأن الله تعالى خلقه، وهو مذهب الدهرية، ومنكم مؤمن بأن الله خلقه

وجملة القول فيه‏:‏ أن الله خلق الكافر وكفره فعل له وكسب وخلق المؤمن وإيمانه فعل له وكسب فلكل واحد من الفريقين كسب واختيار وكسبه واختياره بتقدير الله ومشيئته فالمؤمن بعد خلق الله إياه يختار الإيمان لأن الله تعالى أراد ذلك منه وقدَّره عليه وعلمه منه، والكافر بعد خلق الله تعالى إياه يختار الكفر لأن الله تعالى أراد ذلك منه وقدَّره عليه وعلمه منه‏.‏ وهذا طريق أهل السنة والجماعة من سلكه أصاب الحق وسلم من الجبر والقدر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏3 - 9‏]‏

‏{‏خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِير ‏(‏3‏)‏ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏4‏)‏ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏5‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ‏(‏6‏)‏ زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ‏(‏7‏)‏ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏(‏8‏)‏ يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ‏}‏

‏{‏أَلَمْ يَأْتِكُمْ‏}‏ يخاطب كفار مكة ‏{‏نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ‏}‏ يعني‏:‏ الأمم الخالية ‏{‏فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ‏}‏ يعني ما لحقهم من العذاب في الدنيا ‏{‏وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ في الآخرة‏.‏ ‏{‏ذَلِكَ‏}‏ العذاب ‏{‏بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا‏}‏ ولم يقل‏:‏ يهدينا لأن البشر وإن كان لفظه واحدًا فإنه في معنى الجمع، وهو اسم الجنس لا واحد له من لفظه وواحده إنسان، ومعناها‏:‏ ينكرون ويقولون آدمي مثلنا يهدينا‏!‏ ‏{‏فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ‏}‏ عن إيمانهم ‏{‏وَاللَّهُ غَنِيٌّ‏}‏ عن خلقه ‏{‏حَمِيدٌ‏}‏ في أفعاله‏.‏ ثم أخبر عن إنكارهم البعث فقال جل ذكره‏:‏ ‏{‏زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ‏}‏ ‏{‏زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ‏}‏ يا محمد ‏{‏بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزلْنَا‏}‏ وهو القرآن ‏{‏وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ‏}‏ ‏{‏يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ‏}‏ يعني يوم القيامة يجمع فيه أهل السماوات والأرض ‏{‏ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ‏}‏ وهو تفاعل من الغبن وهو فوت الحظ، والمراد بالمغبون من غُبِن عن أهله ومنازله في الجنة، فيظهر يومئذ غبن كل كافر بتركه الإيمان، وغبن كل مؤمن بتقصيره في الإحسان ‏{‏وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ‏}‏ قرأ أهل المدينة والشام‏:‏ ‏"‏نكفر‏"‏ ‏"‏وندخله‏"‏ وفي سورة الطلاق ‏"‏ندخله‏"‏ بالنون فيهن، وقرأ الآخرون بالياء ‏{‏خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10 - 14‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏10‏)‏ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏11‏)‏ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ‏(‏12‏)‏ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏13‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏وَاَّلذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئسَ المَصِيرُ‏}‏

‏{‏مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏بإرادته وقضائه‏]‏ ‏{‏وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ‏}‏ فيصدق أنه لا يصيبه مصيبة إلا بإذن الله ‏{‏يَهْدِ قَلْبَهُ‏}‏ يوفقه لليقين حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه فيسلم ‏[‏لقضائه‏]‏ ‏{‏وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏}‏‏.‏

‏{‏وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّيتُم فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا البَلاغُ المُبِينُ‏}‏

‏{‏اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَعَلَى اللَّه فَليَتَوَكَّلِ المُؤمِنُونَ‏}‏‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ هؤلاء رجال من أهل مكة أسلموا وأرادوا أن يهاجروا إلى المدينة، فمنعهم أزواجهم وأولادهم، وقالوا‏:‏ صبرنا على إسلامكم فلا نصبر على فراقكم فأطاعوهم وتركوا الهجرة ‏[‏فقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَاحْذَرُوهُمْ‏}‏ أن تطيعوهم وتدعوا الهجرة‏]‏‏.‏ ‏{‏وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏ هذا فيمن أقام على الأهل والولد ولم يهاجر، فإذا هاجر رأى الذين سبقوه بالهجرة قد فقهوا في الدين همَّ أن يعاقب زوجه وولده الذين ثبطوا عن الهجرة، وإن لحقوا به في دار الهجرة لم ينفق عليهم ولم يصبهم بخير، فأمرهم الله تعالى بالعفو عنهم والصفح‏.‏

وقال عطاء بن يسار‏:‏ نزلت في عوف بن مالك الأشجعي‏:‏ كان ذا أهل وولد، وكان إذا أراد الغزو بكوا إليه ورققوه، وقالوا‏:‏ إلى من تدعنا‏؟‏ فيرق لهم ويقيم فأنزل الله‏:‏ ‏"‏إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم‏"‏ بحملهم إياكم على ترك الطاعة، فاحذروهم أن تقبلوا منهم‏.‏

‏{‏وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا‏}‏ فلا تعاقبوهم على خلافهم إياكم فالله غفور رحيم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ‏(‏15‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ‏}‏ بلاء واختبار وشغل عن الآخرة يقع بسببها الإنسان في العظائم ومنع الحق وتناول الحرام ‏{‏وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ‏}‏ قال بعضهم‏:‏ لما ذكر الله العداوة أدخل فيه ‏"‏من‏"‏ للتبعيض، فقال‏:‏ ‏"‏إن من أزواجكم وأولادكم عدوًا لكم‏"‏ لأن كلهم ليسوا ‏[‏بأعداء‏]‏ ولم يذكر ‏"‏مِنْ‏"‏ في قوله‏:‏ ‏"‏إنما أموالكم وأولادكم فتنة‏"‏ لأنها لا تخلو عن الفتنة واشتغال القلب‏.‏

وكان عبد الله بن مسعود يقول‏:‏ لا يقولَّن أحدكم‏:‏ اللهم إني أعوذ بك من الفتنة، فإنه ليس منكم أحد يرجع إلى مال وأهل وولد إلا وهو مشتمل على فتنة، ولكن ليقل‏:‏ اللهم إني أعوذ بك من مضَّلات الفتن

أخبرنا أبو منصور محمد بن عبد الملك المظفري، أخبرنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن الفضل الفقية، أخبرنا أبو الحسن أحمد بن إسحاق الفقيه، حدثنا أحمد بن بكر بن يوسف حدثنا علي بن الحسن، أخبرنا الحسين بن واقد، عن عبد الله بن بريدة قال سمعت أبا بريدة يقول‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبنا، فجاء الحسن والحسين وعليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنبر، فحملهما فوضعهما بين يديه، ثم قال‏:‏ ‏"‏صدق الله‏:‏ إنما أموالكم وأولادكم فتنة، نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران، فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما‏"‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16 - 18‏]‏

‏{‏فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لأنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏16‏)‏ إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ ‏(‏17‏)‏ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ‏}‏ أطقتم هذه الآية ناسخة لقوله تعالى‏:‏ ‏"‏اتقوا الله حق تقاته‏"‏ ‏[‏آل عمران - 102‏)‏ ‏{‏وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا‏}‏ الله ورسوله ‏{‏وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لأنْفُسِكُمْ‏}‏ أنفقوا من أموالكم خيرًا لأنفسكم‏.‏ ‏{‏وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ‏}‏ حتى يعطي حق الله من ماله ‏{‏فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ‏}‏‏.‏

سورة الطلاق

مدنية

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا ‏(‏1‏)‏‏}‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ‏}‏ نادى النبي صلى الله عليه وسلم، ثم خاطب أمته لأنه السيد المقدَّم، فخطاب الجميع معه‏.‏

وقيل‏:‏ مجازه‏:‏ يا أيها النبي قل لأمتك ‏"‏إذا طلقتم النساء‏"‏ إذا أردتم تطليقهن، كقوله عز وجل‏:‏ ‏"‏فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله‏"‏ ‏[‏النحل - 98‏]‏ أي‏:‏ إذا أردت القراءة‏.‏

‏{‏فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ‏}‏ أي لطهرهن بالذي يحصينه من عدتهن‏.‏ وكان ابن عباس وابن عمر يقرآن‏:‏ ‏"‏فطلقوهن في قُبُلِ عدتهن‏"‏ نزلت هذه الآية في عبد الله ‏[‏بن عمر‏]‏ كان قد طلق امرأته في حال الحيض‏.‏

أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي، أخبرنا زاهر بن أحمد الفقيه، أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي، أخبرنا أبو مصعب، عن مالك ‏[‏عن نافع‏]‏ عن عبد الله بن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال‏:‏ مُرْه فَلْيراجِعْها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ‏[‏ثم تطهر‏]‏ ثم إن شاء أمسك بَعْدُ، وإن شاء طلَّق قبل أن يمسَّ، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء‏.‏

ورواه سالم عن ابن عمر قال‏:‏ ‏"‏مره فليراجعها ثم ليطلقها طاهرًا أو حاملا‏"‏‏.‏

ورواه يونس بن جبير وأنس بن سيرين عن ابن عمر، ولم يقولا ثم تحيض ثم تطهر‏.‏

أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال، أخبرنا أبو العباس الأصم، أخبرنا الربيع، أخبرنا الشافعي، أخبرنا مسلم وسعيد بن سالم، عن ابن جريج قال‏:‏ أخبرني أبو الزبير أنه سمع عبد الرحمن بن أيمن مولى عزة يسأل عبد الله بن عمر - وأبو الزبير يسمع - فقال‏:‏ كيف ترى في رجل طلق امرأته حائضًا‏؟‏ فقال ابن عمر‏:‏ طلق عبد الله بن عمر امرأته حائضا فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏مره فليراجعها فإذا طهرت فليطلق أو ليمسك‏"‏ قال ابن عمر‏:‏ وقال الله عز وجل‏:‏ ‏"‏يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قُبلِ عدتهن أو لقبل عدتهن‏"‏ الشافعي يشك‏.‏

ورواه حجاج بن محمد عن ابن جريج، وقال‏:‏ قال ابن عمر‏:‏ وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن‏.‏

اعلم أن الطلاق في حال الحيض والنفاس بدعة، وكذلك في الطهر الذي جامعها فيه لقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏وإن شاء طلق قبل أن يمسّ‏"‏‏.‏

والطلاق السني‏:‏ أن يطلقها في طهر لم يجامعها فيه‏.‏ وهذا في حق امرأة تلزمها العدة بالأقراء‏.‏

فأما إذا طلَّق غيرَ المدخولِ بها في حال الحيض أو طلق الصغيرة التي لم تحض قط أو الآيسة بعد ما جامعها أو طلق الحامل بعد ما جامعها أو في حال رؤية الدم لا يكون بدعيًا‏.‏ ولا سنة ولا بدعة في طلاق هؤلاء لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ثم ليطلقها طاهرًا أو حاملا‏"‏‏.‏

والخلع في حال الحيض أو في طهر جامعها ‏[‏فيه‏]‏ لا يكون بدعيًا لأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لثابت بن قيس في مخالعة زوجته من غير أن يعرف حالها ولولا جوازه في جميع الأحوال لأشبه أن يتعرف الحال‏.‏

ولو طلق امرأته في حال الحيض أو في طهر جامعها فيه قصدًا يعصي الله تعالى ولكن يقع الطلاق لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ابن عمر بالمراجعة فلولا وقوع الطلاق لكان لا يأمر بالمراجعة، وإذا راجعها في حال الحيض يجوز أن يطلقها في الطهر الذي يعقب تلك الحيضة قبل المسيس كما رواه يونس بن جبير وأنس بن سيرين عن ابن عمر‏.‏

وما رواه نافع عن ابن عمر‏:‏ ‏"‏ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر‏"‏ فاستحبابٌ، استحب تأخير الطلاق إلى الطهر الثاني حتى لا يكون مراجعته إياها للطلاق كما يكره النكاح للطلاق‏.‏

ولا بدعة في الجمع بين الطلقات الثلاث، عند بعض أهل العلم حتى لو طلق امرأته في حال الطهر ثلاثًا لا يكون بدعيًا، وهو قول الشافعي وأحمد‏.‏ وذهب بعضهم إلى أنه بدعة، وهو قول مالك وأصحاب الرأي‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ‏}‏ أي عدد أقرائها احفظوها قيل‏:‏ أمر بإحصاء العدة لتفريق الطلاق على الأقراء إذا أراد أن يطلق ثلاثًا‏.‏ وقيل‏:‏ للعلم ببقاء زمان الرجعة ومراعاة أمر النفقة والسكنى‏.‏

‏{‏وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ‏}‏ أراد به إذا كان المسكن الذي طلقها فيه للزوج لا يجوز له أن يخرجها منه ‏{‏وَلا يَخْرُجْنَ‏}‏ ولا يجوز لها أن تخرج ما لم تنقض عدتها فإن خرجت لغير ضرورة أو حاجة أَثِمَتْ فإن وقعت ضرورة - وإن خافت هدمًا أو غرقًا - لها أن تخرج إلى منزل آخر، وكذلك إن كان لها حاجة من بيع غزل أو شراء قطن فيجوز لها الخروج نهارًا ولا يجوز ليلا فإن رجالا استُشْهِدوا بأحد فقالت نساؤهم‏:‏ نستوحش في بيوتنا فأذن لهن النبي صلى الله عليه وسلم أن يتحدثن عند إحداهن، فإذا كان وقت النوم تأوي كل امرأة إلى بيتها وأذن النبي صلى الله عليه وسلم لخالة جابر طلقها زوجها أن تخرج لجذاذ نخلها‏.‏

وإذا لزمتها العِدَّة في السفر تعتد ذاهبة وجائية والبدوية ‏[‏تتبوأ‏]‏ حيث يتبوأ أهلها في العدة لأن الانتقال في حقهم كالإقامة في حق المقيم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ ‏"‏الفاحشة المبينة‏"‏ أن تبذو على أهل زوجها فيحل إخراجها‏.‏

وقال جماعة‏:‏ أراد بالفاحشة‏:‏ أن تزني فتخرج لإقامة الحد عليها ثم ترد إلى منزلها يروى ذلك عن ابن مسعود‏.‏

وقال قتادة‏:‏ معناه إلا أن يطلقها على نشوزها فلها أن تتحول من بيت زوجها والفاحشة‏:‏ النشوز‏.‏

وقال ابن عمر والسدي‏:‏ خروجها قبل انقضاء العدة فاحشة‏.‏

‏{‏وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ‏}‏ يعني‏:‏ ما ذكر من سنة الطلاق وما بعدها ‏{‏وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا‏}‏1 يوقع في قلب الزوج مراجعتها بعد الطلقة والطلقتين‏.‏ وهذا يدل على أن المستحب أن يفرق الطلقات، ولا يوقع الثلاث دفعة واحدة، حتى إذا ندم أمكنه المراجعة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ‏}‏ أي قربن من انقضاء عدتهن ‏{‏فَأَمْسِكُوهُنَّ‏}‏ أي راجعوهن ‏{‏بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ‏}‏ أي اتركوهن حتى تنقضي عدتهن فتبين منكم ‏{‏وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ‏}‏ على الرجعة والفراق‏.‏ أمر بالإشهاد على الرجعة وعلى الطلاق‏.‏ ‏{‏وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ‏}‏ أيها الشهود ‏{‏لِلَّهِ‏}‏

‏{‏ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا‏}‏ قال عكرمة والشعبي والضحاك‏:‏ ومن يتق الله فيطلق للسنة يجعل له مخرجًا إلى الرجعة‏.‏

وأكثر المفسرين قالوا‏:‏ نزلت في عوف بن مالك الأشجعي، أسر المشركون ابنًا له يسمى مالكًا فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله أسر العدو ابني، وشكا أيضا إليه الفاقة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ اتق الله واصبر وأَكْثِر من قول‏:‏ لا حول ولا قوة إلا بالله، ففعل الرجل ‏[‏ذلك‏]‏ فبينما هو في بيته إذ أتاه ابنه وقد غفل عنه العدو، فأصاب إبلا وجاء بها إلى أبيه‏.‏

وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال‏:‏ فتغفل عنه العدو، فاستاق غنمهم، فجاء بها إلى أبيه، وهي أربعة آلاف شاة‏.‏ فنزلت‏:‏ ‏"‏ومن يتق الله يجعل له مخرجا‏"‏ في ابنه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ‏}‏ ما ساق من الغنم‏.‏

وقال مقاتل‏:‏ أصاب غنمًا ومتاعًا ثم رجع إلى أبيه، فانطلق أبوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره الخبر، وسأله‏:‏ أيحل له أن يأكل ما أتى به ابنه‏؟‏ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ نعم، وأنزل الله هذه الآية‏.‏

قال ابن مسعود‏:‏ ‏"‏ومن يتق الله يجعل له مخرجا‏"‏ هو أن يعلم أنه مِنْ قِبَلِ الله وأن الله رازقه‏.‏

وقال الربيع بن خيثم‏:‏ ‏"‏يجعل له مخرجًا‏"‏ من كل شيء ضاق على الناس‏.‏

وقال أبو العالية‏:‏ ‏"‏مخرجًا‏"‏ من كل شدة‏.‏

وقال الحسن‏:‏ ‏"‏مخرجًا‏"‏ عما نهاه عنه‏.‏ ‏{‏وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ‏}‏ يتق الله فيما نابه كفاه ما أهمه‏.‏

وروينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصًا وتروح بطانًا‏"‏‏.‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ‏}‏ قرأ طلحة بن مصِّرف، وحفص عن عاصم‏:‏ ‏"‏بالغُ أمرِهِ‏"‏ بالإضافة، وقرأ الآخرون ‏"‏بالغٌ‏"‏ ‏[‏بالتنوين‏]‏ ‏"‏أمرَه‏"‏ نصب أي منفذ أمره مُمْضٍ في خلقه قضاءَه‏.‏ ‏{‏قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا‏}‏ أي جعل لكل شيء من الشدة والرخاء أجلا ينتهي إليه‏.‏

قال مسروق‏:‏ في هذه الآية ‏"‏إن الله بالغ أمره‏"‏ توكل عليه أو لم يتوكل، غير أن المتوكل عليه يكفِّر عنه سيئاته ويعظم له أجرا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا ‏(‏4‏)‏‏}‏

قوله عز وجل ‏{‏وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ‏}‏ فلا ترجون أن يحضن ‏{‏إِنِ ارْتَبْتُمْ‏}‏ أي شككتم فلم تدروا ما عدتهن ‏{‏فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ‏}‏

قال مقاتل‏:‏ لما نزلت‏:‏ ‏"‏والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء‏"‏ ‏[‏البقرة - 228‏)‏ قال خلاد بن النعمان بن قيس الأنصاري‏:‏ يا رسول الله فما عدة من لا تحيض والتي لم تحض وعدة الحبلى‏؟‏ فأنزل الله‏:‏ ‏"‏واللائي يئسن من المحيض من نسائكم‏"‏ يعني القواعد اللائي قعدن عن الحيض ‏"‏إن ارتبتم‏"‏ شككتم في حكمها ‏"‏فعدتهن ثلاثة أشهر‏"‏‏.‏

‏{‏وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ‏}‏ يعني الصغار اللائي لم يحضن فعدتهن أيضا ثلاثة أشهر‏.‏ أما الشابة التي كانت تحيض فارتفع حيضها قبل بلوغها سن الآيسات‏:‏ فذهب أكثر أهل العلم إلى أن عدتها لا تنقضي حتى يعاودها الدم فتعتد بثلاثة أقراء أو تبلغ سن الآيسات فتعتد بثلاثة أشهر‏.‏ وهو قول عثمان وعلي وزيد بن ثابت وعبد الله بن مسعود وبه قال عطاء وإليه ذهب الشافعي وأصحاب الرأي‏.‏

وحكي عن عمر‏:‏ أنها تتربص تسعة أشهر فإن لم تحض تعتد بثلاثة أشهر ‏[‏وهو قول مالك‏.‏

وقال الحسن‏:‏ تتربص سنة فإن لم تحض تعتد بثلاثة أشهر‏]‏‏.‏ وهذا كله في عدة الطلاق‏.‏

أما المتوفى عنها زوجها فعدتها أربعة أشهر وعشرًا سواء كانت ممن تحيض أو لا تحيض‏.‏

أما الحامل فعدتها بوضع الحمل سواء طلقها زوجها أو مات عنها لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأُولاتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ‏}‏

أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال، أخبرنا أبو العباس الأصم، أخبرنا الربيع، أخبرنا الشافعي، أخبرنا سفيان عن الزهري عن عبيد الله ‏[‏بن عبد الله‏]‏ عن أبيه‏:‏ أن سُبَيْعَةَ بنت الحارث وضعتْ بعد وفاة زوجها بليال فمرَّ بها أبو السَّنابِل بن بَعْكَك ‏[‏فقال‏]‏ قد تَصَنَّعْتِ للأزواج إنها أربعة أشهر وعشر فذكرتْ ذلك سبيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏"‏كذب أبو السنابل - أَوْ‏:‏ ليس كما قال أبو السنابل - قد حَلَلْتِ فتزوجي‏"‏‏.‏

‏{‏وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا‏}‏ يسهل عليه أمر الدنيا والآخرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5 - 6‏]‏

‏{‏ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا ‏(‏5‏)‏ أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏ذَلِكَ‏}‏ يعني ما ذكر من الأحكام ‏{‏أَمْرُ اللَّهِ أَنزلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا‏}‏ ‏{‏أَسْكِنُوهُنَّ‏}‏ يعني مطلقات نسائكم ‏{‏مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ‏}‏‏"‏مِنْ‏"‏ صلة، أي‏:‏ أسكنوهن حيث سكنتم ‏{‏مِنْ وُجْدِكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ سعتكم وطاقتكم، يعني‏:‏ إن كان موسرًا يوسع عليها في المسكن والنفقة، وإن كان فقيرًا فعلى قدر الطاقة ‏{‏وَلا تُضَارُّوهُنَّ‏}‏ لا تؤذوهن ‏{‏لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ‏}‏ مساكنهن فيخرجن ‏{‏وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ‏}‏ فيخرجن من عدتهن‏.‏

أعلم أن المعتدة الرجعية تستحق على الزوج النفقة والسكنى ما دامت في العدة‏.‏ ونعني بالسكنى‏:‏ مؤنة السكنى فإن كانت الدار التي طلقها فيها ملكًا للزوج يجب على الزوج أن يخرج ويترك الدار لها مدة عدتها وإن كانت بإجارة فعلى الزوج الأجرة، وإن كانت عارية فرجع المعير فعليه أن يكتري لها دارًا تسكنها‏.‏

فأما المعتدة البائنة بالخلع أو الطلقات الثلاث ‏[‏أو باللعان فلها السكنى حاملا كانت أو حائلا عند أكثر أهل العلم‏]‏‏.‏

روي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ لا سكنى لها إلا أن تكون حاملا وهو قول الحسن وعطاء والشعبي‏.‏

واختلفوا في نفقتها‏:‏ فذهب قوم إلى أنه لا نفقة لها إلا أن تكون حاملا‏.‏ روي ذلك عن ابن عباس وهو قول الحسن وعطاء والشعبي وبه قال الشافعي وأحمد‏.‏

ومنهم من أوجبها بكل حال روي ذلك عن ابن مسعود، وهو قول إبراهيم النخعي وبه قال الثوري وأصحاب الرأي‏.‏

وظاهر القرآن يدل على أنها لا تستحق إلا أن تكون حاملا لأن الله تعالى قال‏:‏ ‏"‏وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن‏"‏‏.‏

والدليل عليه من جهة السنة ما‏:‏ أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك، عن عبد الله بن يزيد مولى الأسود بن سفيان، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن فاطمة بنت قيس أن أبا عمرو بن حفص طلقها البَتَّة وهو غائب بالشام، فأرسل إليها وكيله بشعير فَسَخِطَتْهُ، فقال‏:‏ واللهِ ما لك علينا من شيءٍ‏.‏ فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له‏.‏ فقال لها‏:‏ ليس لك عليه نفقة، وأمرها أن تعتَّد في بيت أم شريكٍ‏.‏ ثم قال‏:‏ تلك امرأةٌ يغشاها أصحابي فاعتدِّي عند ابن أم مكتوم، فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك، فإذا حللت فآذِنِيني‏.‏ قالت‏:‏ فلما حَلَلْت، ذكرت له أنَّ معاويةَ بنَ أبي سفيان وأبا جهم خطباني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأما معاوية فصعلوكٌ لا مال له، انكحي أسامة بن زيد، قالت‏:‏ فَكَرِهْتُهُ، ثم قال‏:‏ انكحي أسامة، فنحكُتهُ فجعلَ الله فيه خيرًا واغتبطت به‏.‏

واحتج من لم يجعل لها السكنى بحديث فاطمة بنت قيس‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تعتد في بيت عمرو بن أم مكتوم‏.‏

ولا حجة فيه، لما روي عن عائشة أنها قالت‏:‏ كانت فاطمة في مكان وَحْشٍ، فخيف على ناحيتها‏.‏

وقال سعيد بن المسيب‏:‏ إنما نقلت فاطمة لطول لسانها على أحمائها وكان للسانها ذرابة‏.‏

أما المعتدة عن وطء الشبهة والمفسوخ نكاحها بعيب أو خيار عتق فلا سكنى لها ولا نفقة وإن كانت حاملا‏.‏

‏[‏والمعتدة عن وفاة الزوج لا نفقة لها حاملا‏]‏ كانت أو حائلا عند أكثر أهل العلم، وروي عن علي رضي الله تعالى عنه أن لها النفقة إن كانت حاملا من التركة حتى تضع، وهو قول شريح والشعبي والنخعي والثوري‏.‏

واختلفوا في سكناها وللشافعي رضي الله عنه فيه قولان‏:‏ أحدهما لا سكنى لها بل تعتد حيث تشاء، وهو قول علي وابن عباس وعائشة‏.‏ وبه قال عطاء والحسن، وهو قول أبي حنيفة رضي الله عنه‏.‏

والثاني‏:‏ لها السكنى وهو قول عمر وعثمان وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر، وبه قال مالك وسفيان الثوري وأحمد وإسحاق‏.‏

واحتج من أوجب لها السكنى بما‏:‏ أخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك، عن سعيد بن إسحاق بن كعب بن عجرة، عن عمته زينب بنت كعب‏:‏ أن الفريعة بنت مالك بن سنان وهي أخت أبي سعيد الخدري أخبرتها‏:‏ أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة، فإن زوجها خرج في طلب أعبد له أبقوا حتى إذا كان بطرف القدوم لحقهم، فقتلوه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أن أرجع إلى أهلي فإن زوجي لم يتركني في منزل يملكه ولا نفقة‏؟‏ فقالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ نعم، فانصرفت حتى إذا كنت في الحجرة أو في المسجد دعاني أو أمر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعيت له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ كيف قلت‏؟‏ قالت‏:‏ فرددت عليه القصة التي ذكرت من شأن زوجي، فقال‏:‏ امكثي ‏[‏في بيتك‏]‏ حتى يبلغ الكتاب أجله‏.‏ قالت‏:‏ فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرًا‏.‏ قالت‏:‏ فلما كان عثمان أرسل إليّ فسألني عن ذلك فأخبرته فاتبعه وقضى به‏.‏

فمن قال بهذا القول قال‏:‏ إذْنُهُ لفريعة أولا بالرجوع إلى أهلها صار منسوخًا بقوله ‏[‏آخرًا‏]‏ ‏"‏امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله‏"‏‏.‏

ومن لم يوجب السكنى قال‏:‏ أمرها بالمكث في بيتها آخرًا استحبابًا لا وجوبًا‏.‏

قوله عز وجل ‏{‏فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ‏}‏ أي أرضعن أولادكم ‏{‏فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ‏}‏ على إرضاعهن ‏{‏وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ‏}‏ ‏[‏ليقبل بعضكم من بعض إذا أمره بالمعروف‏]‏ قال الكسائي‏:‏ شاوروا قال مقاتل‏:‏ بتراضي الأب والأم على أجر مسمى‏.‏ والخطاب للزوجين جميعًا يأمرهم أن يأتوا بالمعروف وبما هو الأحسن، ولا يقصدوا الضرار‏.‏ ‏{‏وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ‏}‏ في الرضاع والأجرة فأبى الزوج أن يعطي المرأة رضاها وأبت الأم أن ترضعه فليس له إكراهها على إرضاعه، ولكنه يستأجر للصبي مرضعًا غير أمه وذلك قوله‏:‏ ‏{‏فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7 - 11‏]‏

‏{‏لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا ‏(‏7‏)‏ وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا ‏(‏8‏)‏ فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا ‏(‏9‏)‏ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الألْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا ‏(‏10‏)‏ رَسُولا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ‏}‏ على قدر غناه ‏{‏وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ‏}‏ من المال ‏{‏لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا‏}‏ في النفقة ‏{‏إِلا مَا آتَاهَا‏}‏ أعطاها من المال ‏{‏سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا‏}‏ بعد ضيق وشدة غنىً وسعةً‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ‏}‏ عصت وطغت ‏{‏عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ‏}‏ أي وأمر رسله ‏{‏فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا‏}‏ بالمناقشة والاستقصاء، قال مقاتل‏:‏ حاسبها بعملها في الدنيا فجازاها بالعذاب، وهو قوله‏:‏ ‏{‏وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا‏}‏ منكرًا فظيعًا، وهو عذاب النار‏.‏ لفظهما ماضٍ ومعناهما الاستقبال‏.‏

وقيل‏:‏ في الآية تقديم وتأخير مجازها‏:‏ فعذبناها في الدنيا بالجوع والقحط والسيف وسائر البلايا وحاسبناها في الآخرة حسابا شديدا‏.‏ ‏{‏فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا‏}‏ جزاء أمرها وقيل‏:‏ ثقل عاقبة كفرها ‏{‏وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا‏}‏ خسرانا في الدنيا والآخرة‏.‏ ‏{‏أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الألْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا‏}‏ يعني القرآن‏.‏ ‏{‏رَسُولا‏}‏ بدل من الذكر، وقيل‏:‏ أنزل إليكم قرآنًا وأرسل رسولا‏.‏ وقيل‏:‏ مع الرسول، وقيل‏:‏ ‏"‏الذكر‏"‏ هو الرسول‏.‏

وقيل‏:‏ ‏"‏ذكرا‏"‏ أي شرفًا‏.‏ ثم بيَّن ما هو فقال‏:‏ ‏{‏رَسُولا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا‏}‏ يعني الجنة التي لا ينقطع نعيمها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنزلُ الأمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ‏(‏12‏)‏‏}‏

‏{‏اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنّ‏}‏ ‏[‏في العدد‏]‏ ‏{‏يَتَنزلُ الأمْرُ بَيْنَهُنَّ‏}‏ بالوحي من السماء السابعة إلى الأرض السفلى‏.‏

قال أهل المعاني‏:‏ هو ما يدبر فيهن من عجيب تدبيره، فينزل المطر ويخرج النبات، ويأتي بالليل والنهار والصيف والشتاء، ويخلق الحيوان على اختلاف هيئاتها وينقلها من حال إلى حال‏.‏

وقال قتادة‏:‏ في كل أرضٍ من أرضه وسماءٍ من سمائه خلقٌ مِنْ خلقه وأمرٌ من أمره وقضاء من قضائه‏.‏

‏{‏لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا‏}‏ فلا يخفى عليه شيء‏.‏

سورة التحريم

مدنية

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِي لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏1‏)‏‏}‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِي لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏ وسبب نزولها ما أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا عبيد الله بن إسماعيل، حدثنا أبو أسامة، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء ‏[‏ويحب‏]‏ العسل وكان إذا صلى العصر جاز على نسائه فيدنو منهن، فدخل على حفصة فاحتبس عندها أكثر مما كان يحتبس، فسألت عن ذلك فقيل لي‏:‏ أهدت لها امرأة من قومها عكة عسل فسقت رسول الله صلى الله عليه وسلم منها شربة، فقلت‏:‏ أما والله لنحتالنَّ له فذكرت ذلك لسودة، وقلت‏:‏ إذا دخل عليك فإنه سيدنو منك فقولي له‏:‏ يا رسول الله أكلتَ مغافير‏؟‏ فإنه سيقول‏:‏ لا فقولي له‏:‏ ما هذه الريح وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتد عليه أن يوجد منه الريح، فإنه سيقول‏:‏ سقتني حفصة شربة عسل، فقولي له‏:‏ جرست نحلُه العرفط، وسأقول ذلك وقوليه أنت يا صفية، فلما دخل على سودة، تقول سودة‏:‏ والله الذي لا إله إلا هو لقد كدت أن أباديه بالذي قلت لي وإنه لعلى الباب، فرقًا منك فلما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت‏:‏ يا رسول الله أكلت مغافير‏؟‏ قال‏:‏ لا قلت‏:‏ فما بال هذه الريح‏!‏ قال‏:‏ سقتني حفصة شربة عسل، قالت‏:‏ جرست نحله العرفط، فلما دخل علي قلت له مثل ذلك، ودخل على صفية فقالت له مثل ذلك، فلما دخل على حفصة قالت له‏:‏ يا رسول الله ألا أسقيك منه قال‏:‏ لا حاجة لي به تقول سودة‏:‏ سبحان الله لقد حرمناه، قالت‏:‏ قلت لها اسكتي‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا الحسن بن محمد الصباح، حدثنا الحجاج عن ابن جريج قال‏:‏ زعم عطاء أنه سمع عبيد بن عمير يقول سمعت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمكث عند زينب بنت جحش ويشرب عندها عسلا فتواصيت أنا وحفصة أن أيتنا دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم فلتقل إني أجد منك ريح مغافير، أكلت مغافير فدخل على إحداهما فقالت له ذلك، فقال‏:‏ لا بأس شربت عسلا عند زينب بنت جحش ولن أعود له، فنزلت‏:‏ ‏"‏يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"‏إن تتوبا إلى الله‏"‏ لعائشة وحفصة ‏{‏وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِي إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا‏}‏ لقوله‏:‏ بل شربت عسلا

وبهذا الإسناد قال‏:‏ حدثنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا إبراهيم بن موسى، أخبرنا هشام بن يوسف، عن ابن جريج، عن عطاء بإسناده وقال‏:‏ قال‏:‏ لا ولكن كنت أشرب عسلا عند زينب بنت جحش فلن أعود له، وقد حلفت لا تخبري بذلك أحدًا يبتغي بذلك مرضاة أزواجه‏.‏

وقال المفسرون‏:‏ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فلما كان يوم حفصة استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في زيارة أبيها فأذن لها، فلما خرجت أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جاريته مارية القبطية فأدخلها بيت حفصة، فوقع عليها فلما رجعت حفصة وجدت الباب مغلقًا فجلست عند الباب فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجهه يقطر عرقًا، وحفصة تبكي فقال‏:‏ ما يبكيك‏؟‏ فقالت‏:‏ إنما أذنت لي من أجل هذا أدخلت أَمَتَكَ بيتي، ثم وقعت عليها في يومي وعلى فراشي، أما رأيت لي حرمة وحقًا‏؟‏ ما كنت تصنع هذا بامرأةٍ منهنَّ‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أليست هي جاريتي أحلها الله لي‏؟‏ اسكتي فهي حرام عليّ ألتمس بذاك رضاك، فلا تخبري بهذا امرأة منهن‏.‏ فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قرعت حفصة الجدار الذي بينها وبين عائشة فقالت‏:‏ ألا أبشرك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حرم عليه أمته مارية، وإن الله قد أراحنا منها وأخبرت عائشة بما رأت، وكانتا متصافيتين متظاهرتين على سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فغضبت عائشة فلم تزل بنبي الله صلى الله عليه وسلم حتى حلف أن لا يقربها فأنزل الله عز وجل ‏"‏يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك‏"‏ يعني العسل ومارية ‏"‏تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم‏"‏ وأمره أن يكفِّر يمينه ويراجع أمته، فقال‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏2 - 3‏]‏

‏{‏قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ‏(‏2‏)‏ وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِي إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ‏}‏ أي بين وأوجب أن تكفروها إذا حنثتم وهي ما ذكر في سورة المائدة ‏{‏وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ‏}‏ وليكم وناصركم ‏{‏وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ‏}‏

واختلف أهل العلم في لفظ التحريم، فقال قوم‏:‏ ليس هو بيمين، فإن قال لزوجته‏:‏ أنت علي حرام، أو حرمتك، فإن نوى به طلاقًا فهو طلاق، وإن نوى به ظهارًا فظهار‏.‏ وإن نوى تحريم ذاتها أو أطلق فعليه كفارة اليمين بنفس اللفظ‏.‏ وإن قال ذلك لجاريته فإن نوى عتقًا عتقت، وإن نوى تحريم ذاتها أو أطلق فعليه كفارة اليمين، وإن قال لطعام‏:‏ حرَّمْتُه على نفسي فلا شيء عليه، وهذا قول ابن مسعود وإليه ذهب الشافعي‏.‏

وذهب جماعة إلى أنه يمين، فإن قال ذلك لزوجته أو جاريته فلا تجب عليه الكفارة ما لم يقربها كما لو حلف أن لا يطأها‏.‏ وإن حرَّم طعامًا فهو كما لو حلف أن لا يأكله، فلا كفارة عليه ما لم يأكل، يروى ذلك عن أبي بكر وعائشة وبه قال الأوزاعي وأبو حنيفة رضي الله عنه‏:‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا معاذ بن فضالة، حدثنا هشام عن يحيى، عن ابن حكيم، وهو يعلى بن حكيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال في الحرام‏:‏ يكفَّر‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ ‏"‏لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة‏"‏ ‏[‏الأحزاب - 21‏]‏‏.‏ ‏{‏وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِي إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا‏}‏ وهو تحريم فتاته على نفسه، وقوله لحفصة‏:‏ لا تخبري بذلك أحدًا‏.‏

وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس‏:‏ أسرَّ أمر الخلافة بعده فحدثت به حفصة‏.‏ قال الكلبي‏:‏ أسر إليها أن أباك وأبا عائشة يكونان خليفتين على أمتي من بعدي‏.‏ وقال ميمون بن مهران‏:‏ أسر أن أبا بكر خليفتي من بعدي‏.‏

‏{‏فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ‏}‏ أخبرت به حفصة عائشة ‏{‏وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ‏}‏ أي أطلع الله تعالى نبيه على أنها أنبأت به ‏{‏عَرَّفَ بَعْضَهُ‏}‏ قرأ عبد الرحمن السلمي والكسائي‏:‏ ‏"‏عَرَفَ‏"‏ بتخفيف الراء، أي‏:‏ عرف بعض الفعل الذي فعلته من إفشاء سره، أي‏:‏ غضب من ذلك عليها وجازاها به، من قول القائل لمن أساء إليه‏:‏ لأعرفنَّ لك ما فعلتَ، أي‏:‏ لأجازينَّك عليه، وجازاها به عليه بأن طلقها فلما بلغ ذلك عمر قال‏:‏ لو كان في آل الخطاب خير لما طلقك رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ فجاء جبريل وأمره بمراجعتها واعتزل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه شهرًا وقعد في مشربة أم إبراهيم مارية، حتى نزلت آية التخيير‏.‏

وقال مقاتل بن حيان‏:‏ لم يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة وإنما همّ بطلاقها فأتاه جبريل عليه السلام، وقال‏:‏ لا تطلقها فإنها صوامة قوامة وإنها من نسائك في الجنة، فلم يطلقها‏.‏

وقرأ الآخرون ‏"‏عرّف‏"‏ بالتشديد، أي‏:‏ عرّف حفصة بعد ذلك الحديث، أي أخبرها ببعض القول الذي كان منها‏.‏

‏{‏وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ‏}‏ يعني لم يعرفها إياه، ولم يخبرها به‏.‏ قال الحسن‏:‏ ما استقصى كريم قط قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ‏}‏ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى الكراهية في وجه حفصة أراد أن يتراضاها فأسر إليها شيئين‏:‏ تحريم الأمة على نفسه، وتبشيرها بأن الخلافة بعده في أبي بكر وفي أبيها عمر رضي الله عنها فأخبرت به حفصة عائشة وأطلع الله تعالى نبيه عليه، عرف ‏[‏بعضه‏]‏ حفصة وأخبرها ببعض ما أخبرت به عائشة وهو تحريم الأمة وأعرض عن بعض، يعني ذكر الخلافة كره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينتشر ذلك في الناس ‏{‏فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ‏}‏ أي أخبر حفصة بما أظهره الله عليه ‏{‏قَالَت‏}‏ حفصة ‏{‏مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا‏}‏ أي‏:‏ من أخبرك بأني أفشيت السر‏؟‏ ‏{‏قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ‏}‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ‏}‏ أي من التعاون على النبي صلى الله عليه وسلم بالإيذاء‏.‏ يخاطب عائشة وحفصة ‏{‏فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا‏}‏ أي زاغت ومالت عن الحق واستوجبتما التوبة‏.‏ قال ابن زيد‏:‏ مالت قلوبهما بأن سرهما ما كره رسول الله صلى الله عليه وسلم من اجتناب جاريته‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب عن الزهري، أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور عن عبد الله بن عباس قال‏:‏ لم أزل حريصًا على أن أسأل عمر بن الخطاب عن المرأتين من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتين قال الله تعالى لهما‏:‏ ‏"‏إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما‏"‏ حتى حج وحججت معه وعدل وعدلت معه باداوة، فتبَّرز ثم جاء فسكبت على يديه منها فتوضا فقلت له‏:‏ يا أمير المؤمنين من المرأتان من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتان قال الله تعالى لهما‏:‏ ‏"‏إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما‏"‏‏؟‏ فقال‏:‏ واعجبًا لك يا ابن عباس هما عائشة وحفصة‏.‏

ثم استقبل عمر الحديث يسوقه فقال‏:‏ إني كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد، وهي من عوالي المدينة، وكنا نتناوب النزول على النبي صلى الله عليه وسلم فينزل يومًا وأنزل يومًا فإذا نزلت جئته بما حدث من خبر ذلك اليوم من الوحي أو غيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك‏.‏

وكنا معشر قريش نغلب النساء، فلما قدمنا على الأنصار إذا هم قوم تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار فصخبت على امرأتي فراجعتني فأنكرت أن تراجعني فقالت‏:‏ ولم تنكر أن أراجعك‏!‏ فوالله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه، وإن إحداهن لتهجره اليوم حتى الليل‏.‏ فأفزعني وقلت‏:‏ خاب من فعل ذلك منهن‏.‏

ثم جمعت عليَّ ثيابي ‏[‏فنزلت‏]‏ فدخلت على حفصة، فقلت لها‏:‏ أيْ حفصة أتغاضب إحداكن النبي صلى الله عليه وسلم اليوم حتى الليل‏؟‏ قالت‏:‏ نعم، فقلت‏:‏ خبتِ وخسرتِ، أفتأمنين أن يغضب الله تعالى لغضب رسوله فتهلكي لا تستكثري للنبي صلى الله عليه وسلم ولا تراجعيه في شيء ولا تهجريه وسليني ما بدا لك، ولا يغرنك أن كانت ‏[‏جارتك‏]‏ ‏[‏أوضأ‏]‏ منك وأحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم - يريد عائشة -‏.‏

قال عمر‏:‏ وكنا تحدثنا أن غسان تنعل الخيل لتغزونا فنزل صاحبي الأنصاري يوم نوبته فرجع إلينا عشاء فضرب بابي ضربًا شديدًا وقال‏:‏ أَثَمَّ هو‏؟‏

ففزعت فخرجت إليه فقال‏:‏ قد حدث اليوم أمر عظيم‏؟‏ فقلت‏:‏ ما هو أجاء غسان‏!‏ قال‏:‏ لا بل أعظم منه وأهول، طلَّق النبي صلى الله عليه وسلم نساءه‏.‏ فقلت‏:‏ قد خابت حفصة وخسرت كنت أظن أن هذا يوشك أن يكون‏.‏

فجمعت علي ثيابي وصليت صلاة الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مشربة فاعتزل فيها فدخلت على حفصة فإذا هي تبكي، فقلت‏:‏ ما يبكيك أَلَمْ أكن حذرتك‏؟‏ أطلقكن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

قالت‏:‏ لا أدري ها هو ذا معتزل في المشربة‏.‏ فجئت إلى المنبر فإذا حوله رهط يبكي بعضهم، فجلست معهم قليلا ثم غلبني ما أجد، فجئت المشربة التي فيها النبي صلى الله عليه وسلم فقلت لغلام له أسود‏:‏ استأذِنْ لعمر، فدخل فكلم النبي صلى الله عليه وسلم ثم رجع فقال‏:‏ كلمت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرتك له فصمت، فانصرفت حتى جلست مع الرهط الذين عند المنبر، ثم غلبني ما أجد فجئت فقلت إلى الغلام فقلت‏:‏ استأذن فاستأذن ثم رجع إليَّ فقال‏:‏ قد ذكرتك له فصمت ‏[‏فرجعت فجلست مع الرهط الذين عند المنبر، ثم غلبني ما أجد فجئت الغلام فقلت‏:‏ استأذن لعمر، فاستأذن ثم رجع إلي فقال‏:‏ قد ذكرتك له فصمت‏]‏‏.‏

فلما وليت منصرفا قال إذا الغلام يدعوني فقال‏:‏ قد أذن لك النبي صلى الله عليه وسلم فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو مضطجع على رمال حصير ليس بينه وبينه فراش قد أثّر الرمال بجنبه متكئًا على وسادة من أدم حشوها ليف، فسلمت عليه ثم قلت وأنا قائم‏:‏ يا رسول الله أطلقتَ نساءك‏؟‏ فرفع إلي بصره فقال‏:‏ لا فقلت‏:‏ الله أكبر‏.‏ ثم قلت وأنا قائم أستأنس‏:‏ يا رسول الله لو رأيتني وكنا معشر قريش نغلب النساء فلما قدمنا المدينة إذا قوم تغلبهم نساؤهم، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قلت‏:‏ يا رسول الله لو رأيتني ودخلت على حفصة فقلت لها‏:‏ لا يغرنك أن كانت جارتك ‏[‏أوضأ‏]‏ منك وأحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم - يريد عائشة - فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم تبسمة أخرى، فجلست حين رأيته يبتسم فرفعت بصري في بيته، فوالله ما رأيت فيه شيئا يرد البصر غير أهبة ثلاثة، فقلت يا رسول الله ادع الله فليوسع على أمتك فإن فارس والروم قد وسَع عليهم وأعطوا من الدنيا وهم لا يعبدون الله‏.‏

فجلس النبي صلى الله عليه وسلم وكان متكئا فقال‏:‏ ‏"‏أو في هذا أنت يا ابن الخطاب‏؟‏ إن أولئك قوم عُجلوا طيباتهم في الحياة الدنيا‏"‏‏.‏ فقلت‏:‏ يا رسول الله استغفر لي‏.‏

فاعتزل النبي صلى الله عليه وسلم نساءه من أجل ذلك الحديث حين أفشته حفصة إلى عائشة تسعا وعشرين ليلة، وكان قال‏:‏ ما أنا بداخل عليهن شهرًا - من شدة موجدته عليهن حين عاتبه الله عز وجل فلما مضت تسع وعشرون ليلة، دخل على عائشة رضي الله عنها فبدأ بها فقالت له عائشة‏:‏ يا رسول الله إنك كنت أقسمت أن لا تدخل علينا شهرًا وإنما أصبحت من تسع وعشرين ليلة أعدّها عدًا‏!‏ فقال‏:‏ الشهر تسع وعشرون، وكان ذلك الشهر تسعا وعشرين ليلة‏.‏

قالت عائشة‏:‏ ثم أنزل الله التخيير فبدأ بي أول امرأة من نسائه، فأخترته ثم خير نساءه كلهن فقلن مثل ما قالت عائشة‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب عن الزهري، أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءها حين أمره الله أن يخير أزواجه فبدأ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إني ذاكر لك أمرًا فلا عليك ‏[‏أن لا تعجلي‏]‏ حتى تستأمري أبويك، وقد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه قالت ثم قال إن الله قال‏:‏ ‏"‏يا أيها النبي قل لأزواجك‏"‏ إلى تمام الآيتين، فقلت‏:‏ أَوَ في هذا أستأمر أبويَّ‏؟‏ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أخبرنا عبد الغافر بن محمد، أخبرنا محمد بن عيسى، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، حدثنا مسلم بن الحجاج، حدثني زهير بن حرب، حدثنا عمر بن يونس الحنفي، حدثنا عكرمة بن عمار، عن سماك ‏[‏بن زميل‏]‏ حدثنا عبد الله بن عباس، حدثني عمر بن الخطاب قال‏:‏ لما اعتزل النبي صلى الله عليه وسلم نساءه وذكر الحديث‏.‏ وقال‏:‏ دخلت عليه فقلت‏:‏ يا رسول الله ما يشق عليك من شأن النساء‏؟‏ فإن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته وجبريل وميكائيل وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك‏.‏ وقلما تكلمت - وأحمد الله تعالى - بكلام إلا رجوت أن الله يصدِّق قولي الذي أقول، ونزلت هذه الآية‏:‏ ‏"‏عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجًا خيرًا منكن‏"‏‏.‏ ‏"‏وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ‏}‏ أي تتظاهرا وتتعاونا على أذى النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ قرأ أهل الكوفة بتخفيف الظاء، والآخرون بتشديدها‏.‏

‏{‏فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ‏}‏ أي وليه وناصره‏:‏ ‏{‏وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ روي عن ابن مسعود وأبي بن كعب‏:‏ ‏{‏وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ أبو بكر وعمر رضي الله عنهما قال الكلبي‏:‏ هم المخلصون الذي ليسوا بمنافقين‏.‏ ‏{‏وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ‏}‏ قال مقاتل‏:‏ بعد الله وجبريل ‏"‏وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير‏"‏ أي‏:‏ أعوان للنبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وهذا من الواحد الذي يؤدي عن الجمع، كقوله‏:‏ ‏"‏وحسن أولئك رفيقا‏"‏ ‏[‏النساء - 69‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ‏}‏ أي‏:‏ واجبٌ من الله إن طلقكن رسولُه ‏{‏أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ‏}‏ خاضعات لله بالطاعة ‏{‏مُؤْمِنَاتٍ‏}‏ مصدقات بتوحيد الله ‏{‏قَانِتَاتٍ‏}‏ طائعات، وقيل‏:‏ داعيات‏.‏ وقيل‏:‏ مصليات ‏{‏تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ‏}‏ صائمات، وقال زيد بن أسلم‏:‏ مهاجرات وقيل‏:‏ يسحن معه حيث ما ساح ‏{‏ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا‏}‏ وهذا في الإخبار عن القدرة لا عن الكون لأنه قال‏:‏ ‏"‏إن طلقكن‏"‏ وقد علم أنه لا يطلقهن وهذا كقوله‏:‏ ‏"‏وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم‏"‏ ‏[‏محمد - 38‏]‏ وهذا في الإخبار عن القدرة لأنه ليس في الوجود أمة خير من أمة محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6 - 8‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ‏(‏6‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏7‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏8‏)‏‏}‏

قوله عز وجل ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ‏}‏ قال عطاء عن ابن عباس‏:‏ أي بالانتهاء عما نهاكم الله تعالى عنه والعمل بطاعته ‏{‏وَأَهْلِيكُمْ نَارًا‏}‏ يعني‏:‏ مروهم بالخير وانهوهم عن الشر وعلِّموهم وأدِّبوهم تَقُوهُمْ بذلك نارًا ‏{‏وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ‏}‏ يعني خزنة النار ‏{‏غِلاظٌ‏}‏ فظاظ على أهل النار ‏{‏شِدَادٌ‏}‏ أقوياء يدفع الواحد منهم بالدفعة الواحدة سبعين ألفًا في النار وهم الزبانية، لم يخلق الله فيهم الرحمة ‏{‏لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُواْ لا تَعتَذِرُوا اليَومَ إِنَّمَا تُجزَونَ مَا كُنتُم تَعمَلُونَ‏}‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا‏}‏ قرأ الحسن وأبو بكر عن عاصم‏:‏ ‏"‏نُصوحًا‏"‏ بضم النون، وقرأ العامة بفتحها أي‏:‏ توبة ذات نصح تنصح صاحبها بترك العود إلى ما تاب منه‏.‏

واختلفوا في معناها قال عمر وأبي ومعاذ‏:‏ ‏"‏التوبة النصوح‏"‏ أن يتوب ثم لا يعود إلى الذنب، كما لا يعود اللبن إلى الضرع‏.‏

قال الحسن‏:‏ هي أن يكون العبد نادما على ما مضى؛ مجمعًا على ألا يعود فيه‏.‏

قال الكلبي‏:‏ أن يستغفر باللسان ويندم بالقلب ويمسك بالبدن‏.‏

قال سعيد بن المسيب‏:‏ توبة تنصحون بها أنفسكم‏.‏

قال القرظي‏:‏ يجمعها أربعة أشياء‏:‏ الاستغفار باللسان والإقلاع بالأبدان وإضمار ترك العود بالجنان ومهاجرة سيئ الإخوان‏.‏

‏{‏عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ‏}‏ أي لا يعذبهم الله بدخول النار ‏{‏نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ‏}‏ على الصراط ‏{‏يَقُولُونَ‏}‏ إذ طفئ نور المنافقين ‏{‏رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9 - 10‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏9‏)‏ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

ثم ضرب الله مثلا للصالحين والصالحات من النساء فقال جل ذكره‏:‏ ‏{‏ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ‏}‏ واسمها واعلة ‏{‏وَامْرَأَةَ لُوطٍ‏}‏ واسمها واهلة‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ والعة ووالهة‏.‏

‏{‏كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ‏}‏ وهما نوح ولوط عليهما السلام ‏{‏فَخَانَتَاهُمَا‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ ما بغت امرأة نبي قط وإنما كانت خيانتهما أنهما كانتا على غير دينهما فكانت امرأة نوح تقول للناس‏:‏ إنه مجنون، وإذا آمن به أحد أخبرت به الجبابرة وأما امرأة لوط ‏[‏فإنها كانت‏]‏ تدل قومه على أضيافه إذا نزل به ضيف بالليل أوقدت النار، وإذا نزل بالنهار دخنت ليعلم قومه أنه نزل به ضيف‏.‏

وقال الكلبي‏:‏ أسرتا النفاق وأظهرتا الإيمان‏.‏

‏{‏فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا‏}‏ لم يدفعا عنهما مع نبوتهما عذاب الله ‏{‏وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ‏}‏

قطع الله بهذه الآية طمع كل من يركب المعصية أن ينفعه صلاح غيره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11 - 12‏]‏

‏{‏وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏11‏)‏ وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ‏(‏12‏)‏‏}‏

ثم أخبر أن معصية غيره لا تضره إذا كان مطيعًا فقال‏:‏ ‏{‏وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ‏}‏ وهي آسية بنت مزاحم‏.‏

قال المفسرون‏:‏ لما غلب موسى السحرة آمنت امرأة فرعون، ولما تبين لفرعون إسلامها أوتد يديها ورجليها بأربعة أوتاد وألقاها في الشمس‏.‏

قال سلمان‏:‏ كانت امرأة فرعون تعذب بالشمس فإذا انصرفوا عنها أظلتها الملائكة‏.‏

‏{‏إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ‏}‏ فكشف الله لها عن بيتها في الجنة حتى رأته‏.‏

وفي القصة‏:‏ أن فرعون أمر بصخرة عظيمة لتلقى عليها فلما أتوها بالصخرة قالت‏:‏ رب ابن لي عندك بيتًا في الجنة فأبصرت بيتها في الجنة من درة بيضاء، وانتزع روحها فألقيت الصخرة على جسد لا روح فيه ولم تجد ألمًا‏.‏

وقال الحسن وابن كيسان‏:‏ رفع الله امرأة فرعون إلى الجنة فهي فيها تأكل وتشرب‏.‏

‏{‏وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ‏}‏ قال مقاتل‏:‏ وعمله يعني الشرك‏.‏ وقال أبو صالح عن ابن عباس ‏"‏وعمله‏"‏ قال‏:‏ جِمَاعه‏.‏ ‏{‏وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ‏}‏ الكافرين‏.‏ ‏{‏وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ‏}‏ أي في جيب درعها ولذلك ذكر الكناية ‏{‏مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا‏}‏ يعني الشرائع التي شرعها الله للعباد بكلماته المنزلة ‏{‏وَكُتُبِهِ‏}‏ قرأ أهل البصرة وحفص‏:‏ ‏"‏وكتبه‏"‏ على الجمع، وقرأ الآخرون‏:‏ ‏"‏وكتابه‏"‏ على التوحيد‏.‏ والمراد منه الكثرة أيضا‏.‏ وأراد بكتبه التي أنزلت على إبراهيم وموسى وداود وعيسى عليهم السلام‏.‏ ‏{‏وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ‏}‏ أي من القوم القانتين المطيعين لربها ولذلك لم يقل من القانتات‏.‏

وقال عطاء‏:‏ ‏"‏من القانتين‏"‏ أي من المصلين‏.‏ ويجوز أن يريد بالقانتين رهطها وعشيرتها فإنهم كانوا أهل صلاح مطيعين لله‏.‏

وروينا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏حسبك من نساء العالمين‏:‏ مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسية امرأة فرعون‏"‏‏.‏

سورة الملك

مكية

تفسير الآيات رقم ‏[‏1 - 2‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏1‏)‏ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ‏}‏ قال عطاء عن ابن عباس‏:‏ يريد الموت في الدنيا والحياة في الآخرة‏.‏

وقال قتادة‏:‏ أراد موت الإنسان وحياته في الدنيا جعل الله الدنيا دار حياة وفناء، وجعل الآخرة دار جزاء وبقاء‏.‏

قيل إنما قدم الموت لأنه إلى القهر أقرب‏:‏ وقيل‏:‏ قدمه لأنه أقدم لأن الأشياء في الابتداء كانت في حكم الموت كالنطفة والتراب ونحوهما ثم اعترضت عليها الحياة‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ خلق الموت على صورة كبش أملح لا يمر بشيء ولا يجد ريحه شيء إلا مات وخلق الحياة على صورة فرس بلقاء ‏[‏انثى‏]‏ وهي التي كان جبريل والأنبياء يركبونها لا تمر بشيء ولا يجد ريحها شيء إلا حيي، وهي التي أخذ السامري قبضة من أثرها فألقى على العجل فحيي‏.‏

‏{‏لِيَبْلُوَكُمْ‏}‏ فيما بين ‏[‏الحياة إلى الموت‏]‏ ‏{‏أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا‏}‏ روي عن ابن عمر مرفوعا‏:‏ ‏"‏ أحسن عملا‏"‏ أحسن عقلا وأورع عن محارم الله، وأسرع في طاعة الله

وقال فضيل بن عياض ‏"‏أحسن عملا‏"‏ أخلصه وأصوبه‏.‏ وقال‏:‏ العمل لا يقبل حتى يكون خالصًا صوابًا الخالص‏:‏ إذا كان لله والصواب‏:‏ إذا كان على السنة‏.‏

وقال الحسن‏:‏ أيكم أزهد في الدنيا وأترك لها‏.‏

وقال الفَّراء‏:‏ لم يوقع البلوى على ‏"‏أى‏"‏ ‏[‏إلا‏]‏ وبينهما إضمار كما تقول بلوتكم لأنظر أيكم أطوع‏.‏ ومثله‏:‏ ‏"‏سلهم أيهم بذلك زعيم‏"‏ ‏[‏القلم - 40‏]‏ أي‏:‏ سلهم وانظر أيهم فـ‏"‏أي‏"‏‏:‏ رفع على الابتداء ‏"‏وأحسن‏"‏ خبره ‏{‏وَهُوَ الْعَزِيزُ‏}‏ في انتقامه ممن عصاه ‏{‏الْغَفُورُ‏}‏ لمن تاب إليه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏3 - 4‏]‏

‏{‏الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ‏(‏3‏)‏ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا‏}‏ طبقًا على طبق بعضها فوق بعض ‏{‏مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ‏}‏ قرأ حمزة والكسائي‏:‏ ‏"‏من تفوت‏"‏ بتشديد الواو بلا ألف، وقرأ الأخرون بتخفيف الواو وألف قبلها‏.‏ وهما لغتان كالتَّحَمُّل والتحامل والتطهر والتطاهر‏.‏ ومعناه‏:‏ ما ترى يا ابن آدم في خلق الرحمن من اعوجاج واختلاف وتناقض بل هي مستقيمة مستوية‏.‏ وأصله من ‏"‏الفوت‏"‏ وهو أن يفوت بعضها بعضا لقلة استوائها ‏{‏فَارْجِعِ الْبَصَرَ‏}‏ كرر النظر، معناه‏:‏ انظر ثم ارجع ‏{‏هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ‏}‏ شقوق وصدوع‏.‏

‏{‏ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ مرة بعد مرة ‏{‏يَنْقَلِبْ‏}‏ ينصرف ويرجع ‏{‏إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا‏}‏ صاغرًا ذليلا مبعدًا لم يرَ ما يهوى ‏{‏وَهُوَ حَسِيرٌ‏}‏ كليل منقطع لم يدرك ما طلب‏.‏ وروي عن كعب أنه قال‏:‏ السماء الدنيا موج مكفوف والثانية مرمرة بيضاء والثالثة حديد والرابعة ‏[‏صفراء‏]‏ وقال‏:‏ نحاس والخامسة فضة والسادسة ذهب والسابعة ياقوتة حمراء بين ‏[‏السماء‏]‏ السابعة إلى الحجب السبعة صحارى من نور‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5 - 11‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ ‏(‏5‏)‏ وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏6‏)‏ إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ ‏(‏7‏)‏ تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ ‏(‏8‏)‏ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نزلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ ‏(‏9‏)‏ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ‏(‏10‏)‏ فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لأصْحَابِ السَّعِيرِ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا‏}‏ أراد الأدنى من الأرض وهي التي يراها الناس‏.‏ ‏{‏بِمَصَابِيحَ‏}‏ ‏[‏أي‏:‏ الكواكب واحدها‏:‏ مصباح وهو السراج سُمي الكوكب مصباحًا‏]‏ لإضاءته ‏{‏وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا‏}‏ مرامي ‏{‏لِلشَّيَاطِينِ‏}‏ إذا استرقوا السمع ‏{‏وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ‏}‏ في الآخرة ‏{‏عَذَابِ السَّعِيرِ‏}‏ النار الموقدة‏.‏ ‏{‏وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِهِم عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئسَ المَصِيرُ إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا‏}‏ وهو أول نهيق الحمار وذلك أقبح الأصوات ‏{‏وَهِيَ تَفُورُ‏}‏ تغلي بهم كغلي المِرْجل‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ تفور بهم كما يفور الماء الكثير بالحب القليل‏.‏

‏{‏تَكَادُ تَمَيَّزُ‏}‏ تنقطع ‏{‏مِنَ الْغَيْظِ‏}‏ من تغيظها عليهم، قال ابن قتيبة‏:‏ تكاد تنشق غيظًا على الكفار ‏{‏كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ‏}‏ جماعة منهم ‏{‏سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا‏}‏ سؤال توبيخ ‏{‏أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ‏}‏ رسول ينذركم‏.‏

‏{‏قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا‏}‏ للرسل ‏{‏مَا نزلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ‏}‏

‏{‏وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ‏}‏ من الرسل ما جاءونا به ‏{‏أَوْ نَعْقِلُ‏}‏ منهم‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ لو كنا نسمع الهدى أو نعقله فنعمل به ‏{‏مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ‏}‏ قال الزجاج‏:‏ لو كنا نسمع سمع من يعي ويتفكر أو نعقل عقل من يميز وينظر ما كنا من أهل النار‏.‏

‏{‏فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا‏}‏ بعدًا ‏{‏لأصْحَابِ السَّعِيرِ‏}‏ قرأ أبو جعفر والكسائي ‏"‏فسحقا‏"‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12 - 16‏]‏

بضم الحاء، وقرأ الباقون بسكونها وهما لغتان مثل الرُّعُب والرّعْب والسُّحُت والسُّحْت‏.‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ‏(‏12‏)‏ وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏13‏)‏ أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ‏(‏14‏)‏ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ ذَلُولا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ‏(‏15‏)‏ أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ ‏(‏16‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَخشَونَ رَبَّهُم بِالغَيبِ لَهُم مَّغفِرَةٌ وَأَجرٌ كَبِيرٌ وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ نزلت في المشركين كانوا ينالون من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيخبره جبريل عليه السلام بما قالوا فقال بعضهم لبعض‏:‏ أسروا قولكم كي لا يسمع إله محمد‏.‏

فقال الله جل ذكره‏:‏ ‏{‏أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ‏}‏ ألا يعلم ما في الصدور مَنْ خلقها ‏{‏وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ‏}‏ لطيف علمه في القلوب الخبير بما فيها من الخير والشر والوسوسة‏.‏ وقيل ‏"‏مَنْ‏"‏ يرجع إلى المخلوق، أي ألا يعلم الله مخلوقه‏؟‏

‏{‏هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ ذَلُولا‏}‏ سهلا لا يمتنع المشي فيها بالحزونة ‏{‏فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا‏}‏ قال ابن عباس وقتادة‏:‏ في جبالها‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ في آكامها‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ في طرقها وفجاجها‏.‏ قال الحسن‏:‏ في سبلها‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ في أطرافها‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ في نواحيها‏.‏ قال الفراء‏:‏ في جوانبها والأصل في الكلمة الجانب، ومنه منكب الرجل والريح النكباء وَتنكَّب فلان ‏[‏أي جانب‏]‏ ‏{‏وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ‏}‏ مما خلقه رزقًا لكم في الأرض‏.‏ ‏{‏وَإِلَيْهِ النُّشُورُ‏}‏ أي‏:‏ وإليه تبعثون من قبوركم‏.‏ ثم خَّوف الكفار فقال‏:‏ ‏{‏أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ أي‏:‏ عذاب مَنْ في السماء إن عصيتموه ‏{‏أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ‏}‏ قال الحسن‏:‏ تتحرك بأهلها‏.‏ وقيل‏:‏ تهوي بهم‏.‏ والمعنى‏:‏ أن الله تعالى يحرِّك الأرض عند الخسف بهم حتى تلقيهم إلى أسفل، تعلو عليهم وتمر فوقهم‏.‏ يقال‏:‏ مَارَ يَمُورُ، أي‏:‏ جاء وذهب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17 - 22‏]‏

‏{‏أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ ‏(‏17‏)‏ وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ‏(‏18‏)‏ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ ‏(‏19‏)‏ أَمْ مَنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلا فِي غُرُورٍ ‏(‏20‏)‏ أَمْ مَنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ ‏(‏21‏)‏ أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمْ مَنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏22‏)‏‏}‏

‏{‏أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا‏}‏ ريحًا ذات حجارة كما فعل بقوم لوط‏.‏ ‏{‏فَسَتَعْلَمُونَ‏}‏ في الآخرة وعند الموت ‏{‏كَيْفَ نَذِيرِ‏}‏ أي إنذاري إذا عاينتم العذاب‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ‏}‏ يعني كفار الأمم الماضية ‏{‏فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ‏}‏ أي إنكاري عليهم بالعذاب‏.‏

‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ‏}‏ تصف أجنحتها في الهواء ‏{‏وَيَقْبِضْنَ‏}‏ أجنحتها بعد البسط ‏{‏مَا يُمْسِكُهُنَّ‏}‏ في حال القبض ‏[‏والبسط‏]‏ أن يسقطن ‏{‏إِلا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ‏}‏

‏{‏أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ‏}‏ استفهام إنكار‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ أي منعة لكم ‏{‏يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ‏}‏ يمنعكم من عذابه ويدفع عنكم ما أراد بكم‏.‏ ‏{‏إِنِ الْكَافِرُونَ إِلا فِي غُرُورٍ‏}‏ أي في غرور من الشيطان يغرهم بأن العذاب لا ينزل بهم‏.‏

‏{‏أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ‏}‏ أي من الذي يرزقكم المطر إن أمسك الله ‏[‏عنكم‏]‏ ‏{‏بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ‏}‏ تمادٍ في الضلال ‏{‏وَنُفُورٍ‏}‏ تباعد من الحق‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ كفور‏.‏ ثم ضرب مثلا فقال‏:‏ ‏{‏أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ‏}‏ راكبًا رأسه في الضلالة والجهالة أعمى القلب والعين لا يبصر يمينًا ولا شمالا وهو الكافر‏.‏ قال قتادة‏:‏ أكبَّ على المعاصي في الدنيا فحشره الله على وجهه يوم القيامة ‏{‏أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا‏}‏ معتدلا يبصر الطريق وهو ‏{‏عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ‏}‏ وهو المؤمن‏.‏ قال قتادة‏:‏ يمشي يوم القيامة سويًا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23 - 29‏]‏

‏{‏قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ ‏(‏23‏)‏ قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ‏(‏24‏)‏ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏25‏)‏ قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏26‏)‏ فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ ‏(‏27‏)‏ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏28‏)‏ قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ‏(‏29‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ‏}‏ قال مقاتل‏:‏ يعني أنهم لا يشكرون رب هذه النعم‏.‏ ‏{‏قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قُلْ إِنَّمَا الْعِلْم، عنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ فَلَمَّا رَأَوْهُ‏}‏ يعني‏:‏ العذاب في الآخرة - على قول أكثر المفسرين - وقال مجاهد‏:‏ يعني العذاب ببدر ‏{‏زُلْفَةً‏}‏ أي قريبًا وهو ‏[‏اسم يوصف به المصدر يستوي فيه‏]‏ المذكر والمؤنث والواحد والاثنان ‏[‏والجميع‏]‏ ‏{‏سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ اسودت وعليها كآبة، والمعنى قبحت وجوههم بالسواد، يقال‏:‏ ساء الشيء يسوء فهو سيئ إذا قبح، وسيئ يساء إذا قبح ‏{‏وَقِيلَ‏}‏ لها أي قال الخزنة ‏{‏هَذَا‏}‏ أي هذا العذاب ‏{‏الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ‏}‏ تفتعلون من الدعاء تدعون وتتمنون أنه يعجِّل لكم، وقرأ يعقوب تدعون بالتخفيف، وهي قراءة قتادة ومعناهما واحد مثل تذكرون وتذكرون‏.‏

‏{‏قُلْ‏}‏ يا محمد لمشركي مكة الذين يتمنون ‏[‏هلاكك‏]‏ ‏{‏أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ‏}‏ من المؤمنين ‏{‏أَوْ رَحِمَنَا‏}‏ فأبقانا وأخَّر آجالنا ‏{‏فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ فإنه واقع بهم لا محالة‏.‏ وقيل‏:‏ معناه أرأيتم إن أهلكني الله فعذبني ومن معي أو رحمنا فغفر لنا فنحن - مع إيماننا - خائفون أن يهلكنا بذنوبنا لأن حكمه نافذ فينا فمن يجيركم ويمنعكم من عذابه وأنتم كافرون‏؟‏ وهذا معنى قول ابن عباس‏.‏

‏{‏قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ‏}‏ الذي نعبده ‏{‏آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ‏}‏ قرأ الكسائي بالياء، وقرأ الباقون بالتاء‏.‏ ‏{‏مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ‏}‏ أي ستعلمون عند معاينة العذاب من الضال منا نحن أم أنتم‏؟‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ ‏(‏30‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا‏}‏ غائرًا ذاهبًا في الأرض لا تناله الأيدي والدلاء‏.‏ قال الكلبي ومقاتل‏:‏ يعني ماء زمزم ‏{‏فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ‏}‏ ظاهر تراه العيون وتناله ‏[‏الأيدي‏]‏ والدلاء‏.‏ وقال عطاء عن ابن عباس‏:‏ معين أي جار‏.‏

أخبرنا أبو سعيد الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرني أبو الحسن الفارسي، حدثنا أبو عبد الله محمد بن يزيد، حدثنا أبو يحيى البزاز، حدثنا ‏[‏محمد بن يحيى‏]‏ حدثنا أبو داود، حدثنا عمران، عن قتادة، عن عباس الجشمي، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إن سورة من كتاب الله ما هي إلا ثلاثون آية شفعت لرجل فأخرجته من النار يوم القيامة وأدخلته الجنة، وهي سورة تبارك‏"‏‏.‏